كلمة لمصممة برامج “كن نفسك”

عائشة رافع

البداية في رحلتي إلى الحرية والسعادة جاءت في لحظة ما -لا أدري متى ولا كيف- اكتشفت فيها، وبمنتهى الوضوح، أن لي دوراً كبيراً فيما وصلت إليه من الشقاء والتعاسة. في تلك اللحظة بعينها اتخذت مسئوليتي عن مشاعري وأفكاري وقراراتي لتحقيق ما أريد. وبدأت أركز على أن أكتشف ما هو ضعفي أو خطأي في الطريقة التي أفكر بها وأتفاعل بها، وأختار بها. كم اكتشفت من مخاوف تحركني!! وكم اكتشفت من انعدام الثقة في النفس والتقليل من شأنها!! وكم اكتشفت من أوهام كنت ألجأ إليها ظناً مني أنها وسائل لتحقيق السعادة! وكم وكم… من مشاعر وأفكار ومعتقدات هدامة…

يمكنني أن ألخص ما اكتشفته في تفاعلي مع عشرات القصص ومع قصتي أيضاً، عددا من “المطبات”:

1. اكتشفت أن الشخص منا لا يعطي الاهتمام الكافي للتعرف على ما داخله من مشاعر ولا للتعبير عنها بصورة صحية، فنحن غالباً ما نسير في الحياة آلياً، ولا نهتم أن نقف لنتأمل تفاعلنا مع ما يجري لنا، ونتفهمه، ونهضمه، ونغربله لنتخلص مما هو ضار، ونستبقي ما ينفعنا. مثلنا في ذلك مثل شخص يسير في طريق ما ملوث، فتتراكم على بشرته الأتربة والميكروبات وأنواع متعددة من الأدران، ورغم أنها تتوغل في جسده وتسبب له أحاسيس غير مريحة بالمرة، إلا أنه يمضي في سيره آليا ويلتقط غيرها، ولا يفكر في إزالتها.

2. اكتشفت أن الشخص منا وهو يحاول تحقيق ما يريد، يضع تركيز أفكاره على “ما لا يريد”، أي وهو يريد السعادة يتحدث دوماً عن الشقاء، وهو يريد الوفرة يتحدث عن الفقر.. وهو يريد الصحة يتحدث عن المرض.. وهكذا….. فنحن دون أن ندري ندخل في مصيدة أو شبكة عنكبوتية من الأفكار الهدامة، فنتسبب في جلب ما لا نريده لأنفسنا.

3. إن معظمنا يتمتع بقدر كبير من عدم الرفق مع النفس بظن تهذيبها أو تقويمها، فحين نرى من أنفسنا سلوكاً سلبياً، وغالباً ما يكون نتيجة طبيعية للنقطتين السابقتين (عدم التعامل مع مشاعرنا باستواء، وتركيز أفكارنا وحديثنا على ما لا نريد) فإننا نسارع إلى الوقوع في “مطب” جديد وهو الكبت، أو الجلد، أو الوصم، أو الخزي، وكلها تدفعنا إلى مشاعر الكره لأنفسنا والقسوة عليها.

4. اكتشفت أن معظمنا يقع في “مطب” “الاعتماد السلبي” إما على الآخرين أو حتى على ربنا سبحانه وتعالى. والاعتماد السلبي هو أننا نضع مسئولية تحقيق ما نريد على “الآخر”، بينما نحن (وبسبب النقاط الثلاث المذكورة أعلاه) نسير في اتجاه معاكس تماماً لما نريد. وبالتالي فنحن نفشل في تحقيق علاقة سوية على أي مستوى. فالشخص مثلاً يطلب من الأطراف الأخرى أن تجلب له السعادة، بينما لا يواجه هو نفسه بدوره فيما يجلب لنفسه من شقاء بأسلوبه في التعامل مع مشاعره وأفكاره!! ويظل يلوم “الآخرين” ويتهمهم بأنهم سبب شقائه.

حين بدأت في علاج نفسي بإزالة الطبقات التي كان يتضح لي أنها مسئولة عن شقائي، لم يكن الأمر سهلاً؛ لأنه كان من المحتمل كثيراً أن أقع من جديد في الإحساس بالذنب وجلد الذات.. أو اليأس.. أو الشك.. أو الخجل من أخطائي، وأنا مسجونة في “إحساس الضحية”. لكن أدركتني رحمة ربي في لحظة فارقة اقتنعت فيها فعلاً بأنه مهما كانت أخطائي فإنني أتقبل نفسي، وأصمم على خوض رحلة التغيير للأفضل، وصاحب هذه اللحظة يقيني برحمة ربي ومغفرته.

كأني حين تحررت نفسي من أوهامها حررت الناس أيضاً من ظلم نفسي لهم، فقد صرت أتقبل الآخرين كما هم فعلاً، وأحترم اختلافهم عني، مع احترامي أيضاً لحقي في الاختلاف. هذا التقبل كان مفتاحاً للتحرر من معتقد هدام للغاية؛ وهو الحكم على الأشياء بأنها صواب مطلق أو خطأ مطلق، وما يصحب ذلك من صراعات بين البشر في معظم العلاقات. صرت أدرك أن هناك رؤى كثيرة لكل أمر، وكل شخص له حقه في اختيار ما يرى أنه حق بالنسبة له، وليس من حق أحد أن يدعي أنه صاحب الحق المطلق، أو يَصِمَ أحداً ما بأنه على خطأ مطلق.

وحتى حين أطلب إرشاداً ممن أثق في علمه وحكمته ونقائه (معلمي) فأنا أوقن أن في طلبي هذا أتلقى فيضاً من طاقته الصافية التي تحررني، لا تقيدني.. نوره يمدني بالنور.. لينقشع ظلام نفسي.. فأرى.. محبته تدعمني.. ولا تختزل تجربتي في البحث واتخاذ القرار بنفسي.. وحكمته تلهمني ولا تبتسر حقي في رؤية مستقلة.. كلماته تضيء الطريق لأستكمل الرحلة.. ولكن “أنا” التي يجب أن تسير الطريق.. وجوده يأخذ بيدي.. يوصلني إلى ما داخلي.

صار منهج التواصل مع “أنا الحقيقي” أكثر تلقائية مع الممارسة، فأتنبه بسرعة لأي فكرة أو شعور يأتي من منطقة داخلي لازالت تحمل خوفاً.. أو شكاً.. أو صراعاً. ومع التنبه.. أتقبل حدودي كبشر، وأغفر لنفسي، وأتواصل مع طاقة المحبة داخلي ومن حولي، فأتحرر بشكل أسرع، وأتناغم مع المنطقة الأكثر استواءً داخلي، والتي صرت أعرفها وأتواصل معها، فأشعر بتناغمي مع نفسي وكل من حولي.. ووصلتي بتيار المحبة والرحمة من عليّ.. من ربي.. من النور القابع في كل قلبٍ صافٍ في الوجود.

إني فعلاً أؤمن أن كل إنسان يمكنه أن يحقق السعادة بكل مستوياتها في حياته.. لو اختار.. ولو بدأ التواصل مع “أنا الحقيقي” داخله.. بسماته الخاصة.. بما وهبه الله من إمكانات وقدرات.. بتدريب أفكاره لتكون دائماً بناءة وخيرة ومبدعة.. وأيضاً بأن يكون أكثر رفقاً مع نفسه، فيستبدل اللوم والتوبيخ لها بالاكتشاف والفهم لما في داخلها.. وتحويله بالوعي إلى أدوات للنمو. هذا حدث مع كثيرين جداً حققوا السعادة بمعناها العميق الذي لا يمكن لأحد أن يسلبها منهم. وحدث معي.. وأثق.. بل أؤمن أنه يمكن جداً أن يحدث معكم.. وهذا ما أتمناه بكل قلبي..

مقتطفات من كتاب  كتاب “كن نفسك.. تكن سعيدا” للكاتبة عائشة رافع